سيدة سيلوف
"أعظم كنز في ليتوانيا"
أول ظهور لوالدة الإله في أوروبا
تقع ليتوانيا في شرق أوروبا، على ساحل بحر البلطيق، تحدّها لاتفيا من الشمال، روسيا البيضاء من الشرق، و من الجنوب الغربي بولندا و منطقة كالينينغراد من روسيا الاتحادية. قبلت ليتوانيا الإيمان الكاثوليكي عام 1251 عندما قبل ملكها مينداغاس سرّ المعمودية بحسب العقيدة الكاثوليكية. بسبب الهجمات و عمليات السلب المتكررة التي تعرضت لها ليتوانيا من قبل الفرسان التيوتونيين (الجرمانيين أو الألمان) لم يكن بالإمكان نشر الإيمان الكاثوليكي إلى ما بعد عام 1410 عندما هُزم هؤلاء الفرسان بشكل نهائي من قِبل فيتاوتس الكبير و هو نبيل تقيّ و كان مستشاراً للنبيل بيتراس جيدغاوداس الذي بنى أول كنيسة في سيلوفا عام 1457 إكراماً لميلاد العذراء مريم و وهبها الكثير من الهدايا الثمينة و سرعان ما أصبحت مكاناً تكرّم فيه السيدة العذراء تكريماً حاراً. في الثامن من أيلول/ سبتمبر من كلّ عام، يتقاطر الناس من مختلف أنحاء ليتوانيا ليعيدوا تذكار ميلاد والدة الإله. احترقت الكنيسة بعد قرابة الأربعين عاماً. و في عام 1500 تمّ بناء كنيسة جديدة مكان القديمة من قِبل أندريوس زافيسا الذي ورث ثروة جيدغاوداس.
عندما اجتاحت حركة الإصلاح البروتستانية أوروبا، لم تستطع حتى هذه القرية الصغيرة النجاة من تأثيرها، ففي عام 1532، أصبح الحاكم المحلي منتمياً غيوراً للعقيدة الكاليفينية كما فعل كثير من النبلاء و المثقفين.... و قاموا بفرض إرادتهم على الناس. فكان كاثوليكيو سيلوفا بلا حول و لا قوة لمقاومة قمع إيمانهم من قِبل الطبقة العليا ذات النفوذ. فتمت مصادرة أملاك الكنيسة و تحويل ملكية الأرض للكالفينيين. متأثراً بموجة البروتستانتية التي كانت تجتاح أوروبا حينها، قام خليفة الحاكم المحلي و يدعى جون زافيسا مع عدد من النبلاء اللتوانيين بقبول العقيدة اللوثرية عام 1532. على الرغم من أنه قد امتلك أراضي الكنيسة فلا يبدو أنّه قد استولى على الكنيسة الكاثوليكية حيث بنى كنيسة لورثية قرب الكنيسة الكاثوليكية. كانت اللوثرية قوية في سيلوفا حتى عام 1550، عندما فسحت المجال للكالفينية. عام 1551، استولى ملاخي زافيسا شقيق جون على أراضي و كنيسة سيلوفا.
مرّت ثمانون سنة و القطيع الكاثوليكي، لكونه دون راعٍ ليقوده و يغذيه، مات تدريجياً. فلم يبق سوى عدد قليل جداً من القرويين كبار السن الذين بالكاد يتذكرون أنّه كانت توجد كنيسة كاثوليكية في قريتهم و قد تربّى الأطفال على العقيدة الكالفينية. و فجأة، من خلال ظهور الطوباوية مريم، تدخّل الربّ بطريقة عجائبية. و قد تم إثبات هذا الظهور كحدث حقيقي و صدّق عليه البابا بيوس السادس في المرسوم البابوي الذي أصدره في 17 آب/ أغسطس عام 1775. و إنّ الصفة المميزة لهذا الظهور هي حقيقة أنّ هذه المعجزة حدثت في جو غير كاثوليكي بالكامل.
في يوم صيفي من عام 1608، كان عدد من الأطفال يرعون خرافهم في حقل على أطراف قرية سيلوفا. كانوا يلعبون قرب صخرة كبيرة، قرب الجزء من الحقل المملوء بالأشجار يصخرون بمرح مع بعضهم. فجأة وقفوا الواحد تلو الآخر متسمرين يحدقون باتجاه الصخرة. وسط السكون كان يمكنهم سماع صوت بكاء مرتفع، ثم رأى الأطفال سيدة شابة جميلة تقف على الصخرة حاملة طفلاً بين ذراعيها و هي تبكي بمرارة. كان حزنها الشديد واضحاً جداً. لم تتكلم لكنها نظرت إليهم بحزن فيما كانت وافقة هناك تبكي كأنّ قلبها ينفطر و كانت دموعها غزيرة لدرجة أنّها كانت تنساب على وجنتيها و تساقط بعضها على الصخرة. كانت ترتدي رداءين أزرق و أبيض يختلفان اي لباس يعرفه الأطفال، و شعرها البني الفاتح ينسدل بلطف على كتفيها، و كان نور غريب يحيط بالمرأة و الطفل. عندما عاد الأطفال إلى منزلهم أخبروا ذويهم و جيرانهم عن المرأة الباكية.
أسرع أحد الأطفال إلى معلّم العقيدة الكالفينية ليقص عليه ما رأى و انتشر الخبر عن هذا الحدث بسرعة، و في اليوم التالي، ذهب عدد كبير من الناس إلى المكان الذي ظهرت فيه المرأة، البعض كان يهزؤون بصوت عالٍ بينماكان آخرون متأثرين بتأكيد الأطفال و هم يبكون بأنّهم يقولون الحقيقة. و كان هذا مثبتاً لكون جميع الأطفال كانوا يسردون القصة ذاتها بأدقّ التفاصيل سواء استجوبوا معاً أو كلّ على حدا. كان إلى معلّم العقيدة الكالفينية حاضراً مع رئيس الاكليريكية الكالفينية سالياموناس غروسيوس. وبّخ المعلّم الناس بشدة لإصغائهم لما أسماه قصص الأطفال، و حاول أن يشرح بأنّه لو أنّ احداً ظهر فإنّه سيكون الشيطان نفسه الذي كان يحاول إبعادهم عن العقيدة الكالفينية. و فيما هو يتكلّم ظهرت المرأة مرة أخرى على الصخرة كما فعلت في اليوم السابق، حزينة جداً و عيناها مملوءتان بالدموع و تحمل طفلاً بين ذراعيها. ظهرت تماماً كما وصفها الأطفال في اليوم السابق. أصيب جميع الحاضرين بالذعر و لم يجرؤ أحد على قول كلمة واحدة، و قد تجرّأ المعلّم على الرغم من خوفه على أن يسألها : "لماذا تبكين؟" فأجابت المرأة بنبرة حزينة جداً " فيما مضى كان ابني يُكرّم و يعبد في هذا المكان، أما الآن فكلّ ما يفعله الناس هو بذر و زراعة هذه الأرض."و بقولها هذا اختفت المرأة عن أنظار الحاضرين.
شوهد الظهور من قبل عدد كبير الناس، فلم يكن من المجدي أن يحاول قادة الكالفينيين إنكاره. حاولوا أن يشرحوا أنّه لم يكن سوى خدعة من الشيطان. كان الناس مذهولين لما حدث و لم يعرف كثير منهم ماذا يقول أو يصدّق. في كثير من ظهورات العذراء عادة ما تكون أيقونة أو تمثال مرتبطة بالحدث و لم يكن ظهور سيدة سيلوفا استثناء، فقد وصلت أخبار الظهورات إلى رجل مسنّ أعمى يتجاوز عمره المئة عام و يعيش في قرية قريبة، و قد تذكر هذا الشخص ليلة قبل حوالي ثمانين عاماً قام فيها بمساعدة الأب هولوبكا بدفن درع حديدي مملوء بكنوز الكنيسة بجانب صخرة كبيرة و قد أرشده القرويون إلى حقل الظهورات ليرى إن كان بإمكانه المساعدة في تحديد المكان الذي دفنت فيه الكنوز. حالما وصل إلى المكان، استعاد بصره بطريقة عجائبية، فركع على ركبتيه من شدة الفرح و الامتنان و أشار بدقة إلى المكان الذي دفن فيه الدرع. تمّ إخراج الدرع من الأرض و عندما فُتح وجد فيه أيقونة كبيرة للعذراء و الطفل يسوع، عدة كؤوس قربان ذهبية، ملابس كهنة، و ثائق كنسية و وثائق أخرى، كلّها محفوظة تماماً. تمّ وضع الأيقونة بشكل دائم في كنيسة و مزار ميلاد السيدة العذراء مريم حيث تكرّم حتى يومنا هذا باسم أيقونة سيلوفا العجائبية.
سجلت معجزات كثيرة على مرّ السنين و شهد المزار تغييرات كبيرة و كان لا بدّ من بناء كنائس أكبر لتلائم الحجاج. و كان تكريم سيدة سيلوفا يتزايد حتى الحرب العالمية الثانية التي جلبت معها تخريباً و دماراً للحرية في ليتوانيا. منذ ذلك الوقت و عالمنا يشهد تغيرات كثيرة، فنحن نجد أنفسنا محاطين بإنحلال أخلاقي و قد ضلّ الكثيرون طريقهم، و اليوم فإنّ السيدة العذراء سيدة سيلوفا هي أقدر شفيع لنا أمام الربّ القدير. يمكن أن يتساءل البعض عن سبب عدم شهرة هذه الظهورات في العالم الكاثوليكي. عام 1795، في زمن الانقسام الكبير، احتلت روسيا ليتوانيا و حكمتها بيد من حديد حتى عام 1918، فكان ممنوعاً تدريس اللغة الليتوانية ، أوقفت طباعة الصحف و الكتب الدينية، و كان السفر محدوداً، كلّ هذه القيود حدّت من نشر قصة الظهورات.
خلال سنوات الاستقلال بين عامي 1918 و 1940 انتشرت قصة الظهورات عبر أوروبا و ازداد التكريم. و استمر في ظلّ الاحتلال السوفياتي بطريقة خفية و مكبوتة و لكن ثابتة. و في وقتنا الحاضر، ساهم الاهتمام المتزايد بتاريخ ليتوانيا الكاثوليكي في ازدياد تكريم سيدة سيلوفا، كما سمحت زيارة البابا يوحنا بولس الثاني عام 1993 للعالم بان يرى هذا المكان المميز. كما ظهرت والدة الإله لليتوانيين و شجعتهم في أحلك أيامهم عام 1608، ها هي مرة أخرى تبارك الليتوانييين بمنحهم حرية الإيمان. إن سيدة سيلوفا هي أيقونة و كنيسة، و لكن فوق كلّ شيء صورة لإيمان ليتوانيا الكاثوليكي الثابت خلال قرون الاضطهاد، التجارب و الصعوبات.